موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

من المتاهة الفكرية إلى الحقيقة الصمدية

اشتقت إليكم أصدقاء الطريق... أسرار اليوم كنوز لا يمكن لقلب أن يحتفظ بها لنفسه.. من شدة نورها وجمالها.. لنقرأ ونسبح معاً في هذه البحور.. من السطور إلى الصدور.. ولا يفوتكم أي فقرة منها.

تقول الأسرار:

إن عدم الاستغناء عن الحكمة هو حماقة!

عندما لا يوجد الفكر، يكون الفهم وعدم الفهم كلاهما حقيقة

عندما يوجد الفكر، يكون الفهم وعدم الفهم كلاهما زيف

..عندما تفهم، يعتمد الواقع عليك

..عندما لا تفهم، تعتمد أنت على الواقع

عندما يعتمد الواقع عليك، يصبح الشيء غير الحقيقي حقيقياً

عندما تعتمد على الواقع، يصبح الشيء الحقيقي مزيفاً

عندما تعتمد على الواقع، يكون كل شيء مزيفاً

عندما يعتمد الواقع عليك، يكون كل شيء حقيقياً..

..هكذا، لا يستخدم الحكيم فكره للبحث عن الواقع، ولا الواقع للبحث عن فكره، ولا الواقع للبحث عن الواقع...

فكره لا يجعل الواقع يظهر، والواقع لا يجعل فكره يُثار أو يظهر..

ولأن فكره والواقع كلاهما ساكن مستقر، فهو يعيش دائماً في الصمدية مع الواحد الصمد.

 

تقول الأسرار:

لا يوجد شيء يمتلك طبيعةً خاصة به... تصرّف! لا تسأل!

عندما تسأل تكونُ مخطئاً...

عندما تكون مخدوعاً، فإن الحواس الستة والعناصر الخمسة

هي حجارة بناء المعاناة والفناء..

عندما تستيقظ، فإن الحواس الستة والعناصر الخمسة

هي أساسات بناء التحرر والبقاء..

العطشان الباحث عن الطريق لا ينظر أبعد من نفسه.

إنه يعرف أن الفكر هو الطريق.. لكنه عندما يجد الفكر، يجد لا شيء...

وعندما يجد الطريق، يجد لا شيء...

إذا كنتَ تعتقد أنه يمكن استخدام الفكر لإيجاد الطريق، فأنت مخدوع.

عندما تكون مخدوعاً، توجد الاستنارة والعرفان.

عندما تكون واعياً، لا تكون موجودة..

لأن الوعي هو الاستنارة بنور الرحمن، وهو أيضاً نبع العرفان...

لا تكره الحياة والموت، أو تحب الحياة والموت

حافظ على كل أفكارك متحررة من الخداع، وستشهد في هذه الحياة بداية التحرر الأبدي، وستختبر في الموت حتمية عدم الولادة من جديد...

إن رؤية الشكل لكن دون أن يُفسدك الشكل،

أو سماع الصوت لكن دون أن يُفسدك الصوت هو التحرر..

العيون التي لا تتعلق بالشكل هي أبواب للحقيقة الصمدية

الأذنان التي لا تتعلق بالصوت هي أيضاً أبواب لها..

باختصار، أولئك الذين يُدركون الوجود كظاهرة، ويبقون دون تعلّق يتحررون

عندما يوجد الخداع، يكون الفكر هو أرض النار والمساكين المعذّبين

عندما يغيب الخداع، يكون الفكر هو أرض الجنة والمستنيرين المباركين

 

....إن فهم هذه الأسرار والتعاليم سيكون أسهل إذا فهمنا أولاً بضعة نقاط... أولاً نظرية التقمص، وقد كتبنا عنه موضوعاً في سياق مختلف (يمكن الرجوع له هنا)

كل الأديان المولودة خارج الهند تؤمن بحياة واحدة.. والأديان المولودة في الهند تختلف فيما بينها على جميع النقاط ما عدا التقمص.. كلها تصرّ أنه ليس لديك مجرد حياة واحدة.. واحدة فقط؟ بل كان لديك آلاف الحيوات السابقة، وستستمر ويكون لديك أيضاً كثير من الحيوات اللاحقة المتكررة إلى أن تُدرك طبيعة نفسك.. من عرف نفسه عرف ربه.

الحياة هي مجرد مدرسة، وما لم تتعلم الاستنارة ستستمر بتكرار حلقة الحياة والموت... هذا شيء أساسي جداً.

لو أنه كان لديك حياة واحدة فقط متوسطها سبعون سنة، عندها لن يبقى لديك وقت كافي للتأمل ولاستكشاف ذاتك والبحث عن الطريق الداخلي العتيق.

سبعون سنة هي فترة قليلة فعلاً، لأن ثلثها يضيع في النوم، وثلث آخر يضيع في تدريسك وتعليمك كيف تكسب معاشك، والثلث الباقي تضيّعه بطرق عديدة لأنك لا تعرف ماذا تفعل به.

رأيتُ العديد من الناس يلعبون الشطرنج أو ورق الشدة وسألتهم: "ألا يمكنكم إيجاد شيء أفضل من هذا؟".. وجوابهم نفسه يتكرر دائماً.. إننا نمضي ونقتل الوقت.. ما هذا الجهل وأين العقل عند الإنسان؟ ..لا ليس لديك كثير من الوقت.

ليس بوسعك قتل أو تمضية الوقت...

وفوق ذلك، الوقت هو الذي يقتلك، وأنت لا تقدر على قتله.. كل لحظة يجلب الوقتُ الموت إليك أقرب فأقرب...

إذا قمتَ بحساب كل نشاطاتك.. تحلق ذقنك مرتين في اليوم حتى تلمع.. كم من الوقت تصرف عليها؟ وأنتي تجلسين أمام المرآة مع الماكياج كل يوم.. تستمعون إلى محطات المذياع وتشاهدون التلفاز بأفلامه ومسلسلاته.. كم من الوقت؟

هناك دراسة إحصائية أميركية أظهرت أن كل أميركي يهدر سبع ساعات ونصف يومياً في مشاهدة التلفاز... هذا ثلث حياته يمضيه فقط جالساً ملتصقاً على الكرسي ويشاهد كل أنواع التفاهات.

كم تصرف من الوقت على تدخين السيجارة والسيجار والأركيلة؟ وهناك عدة مدخنين مدمنين جداً يُشعلون السيجارة من السيجارة، والأركيلة من الأركيلة عشرة مرات في اليوم.. اقرأ هنا لتعرف السبب.

كم تهدر من الوقت على قراءة الجرائد ومشاهدة الآخبار التي لا تجلب أي أخبار؟ كل ما يكتبونه وينشرونه في الجرائد ووسائل الإعلام هو المرض فقط: الجرائم وحوادث الاغتصاب والانتحار والحروب والإرهاب... يجعلونك تعتقد أن هذا هو العالم وهذه هي حياتنا المفترضة... يحررونك من مسؤوليتك تماماً.. يُقنعونك أن العالم بكامله يعيش بهذه الطريقة، ولا شيء خاطئ لأن كل الناس يقومون بذلك... لا يجلبون لك أي خبر عن شخص استنار واشتعل وعيه بالأنوار.. ربما هذا ليس خبراً بالنسبة لهم.. إذا كان هناك شخص يصل إلى أعماق أكبر في التأمل.. لا هذا ليس خبراً يشدّ المشاهدين والأرقام والملايين.. إذا أصبح شخصٌ ما ساكناً هادئاً في حياته وتجاوز كل الغضب والطمع والبؤس... أكييييد هذا ليس خبراً تنقله الشاشة الغشاشة.

مرةً سألوا برنارد شو: "ما هو الخبر الجديد؟".. أجاب: "عندما يعض كلب إنساناً فهذا ليس خبر... وعندما يعض إنسان كلباً فهذا خبر"... كم تهدر من الوقت في قراءة ومشاهدة كم عدد الأشخاص الذين يعضون الكلاب؟؟ إذا حسبتَ بدقة، ستفاجأ بأنه في سبعين سنة من حياتك ليس لديك حتى سبعة دقائق لأجل نفسك.. وهذه حالة فائقة من الغباء.

 

بعدها، ولأن هناك فقط حياة واحدة، هناك مقدار كبير من السرعة والعجلة والاستعجال.. لماذا أصبح الغرب والعرب مدمنين جداً على السرعة في كل شيء؟ فكرة الحياة الواحدة التي فرضتها الشرائع الدينية اليهودية والمسيحية والإسلامية قد جعلت الناس مسرعين متسرّعين في كل شيء... يركضون ويركضون دوماً، لأن الوقت قليل، الوقت كالسيف إنْ لم تقطعه قطعك! ولأن هناك كثير من الرغبات والأطماع يجب تحقيقها... يجب أن أصبح أغنى الأغنياء، وأن يصبح عندي منصب وسلطة قوية، وأصبح من المشاهير وأبو مليونير وبليونير دولار وبترول ودينار أقود مليون حمار... عندنا ألف هدف وهدف والحياة قصيرة جداً.. الطريقة الوحيدة للنجاح هو تنفيذ كل شيء بأقصى سرعة ممكنة.

معظم ربات البيوت في الغرب والآن عندنا العرب لا يعرفون ما هو الطبخ.. وأفضل زوجة هي التي تعرف كيف تفتح المعلبات بنفسها... يجب عمل كل شيء بسرعة فلماذا إضاعة الوقت في الطبخ والنفخ؟

لا أحد يعيش في حالة الاستقرار والسكون ولا يمكنه، لأن ذلك يبدو أيضاً مضيعة للوقت! الجلوس بصمت دون فعل شيء هو أساس الوصول إلى حالة التأمل... في الغرب، التأمل غير ممكن لسبب بسيط هو أن حياة واحدة هي فترة قصيرة جداً... والموت يأتي بسرعة كبيرة لهذا لا يعطيك وقتاً كافياً.

المفهوم الشرقي يعتني بالنمو الروحي عندك... نظرية التقمص، أي الحلقة الأبدية المستمرة من الولادة وإعادة الولادة، تعطيك مقداراً كافياً من الوقت.. يمكنك الجلوس بصمت ساعات متتالية فلا يوجد أي عجلة... لا حاجة للسرعة في كل أعمالك، فهناك زمن أبدي متاح لك وليس مجرد سبعين سنة وانتهى.

الغرب فقير جداً... عندهم فقط سبعون سنة للشخص الواحد... الشرق قد يبدو فقيراً من الخارج، لكن عالمه الداخلي غني جداً... يستمر الوعي من الأبد إلى الأبد... كلنا جزء واحد مع الواحد الأحد..

 

ثانياً، حياة واحدة فقط لا تكفي لجعلك تملّ.. السبعون سنة تمضي بسرعة فلا يلحق الملل أن يظهر.. لكن حياة بعد حياة، تركض خلف المال... حياة بعد حياة، تركض وراء السلطة والسياسة... حياة بعد حياة، تركض وراء النساء أو الرجال... حالما تصبح مدركاً لهذه السلاسل الطويلة من الغباء المتكرر، وهو الذي قد نجحتَ فيه كثيراً من المرات، لكنك لم تربح شيئاً.

في كل حياة عليك البدء مرة ثانية من الألف باء... فقط تخيّل ملايين الحيوات الماضية خلفك.... لقد أحببتَ كثيراً جداً من النساء وأخبرتَ كل واحدة منهن: "سوف أحبك للأبد يا عمري ويا روحي"... كما أخبرت كل واحدة أيضاً: "أنتي أجمل امرأة في العالم بأكمله".... وكنت تقول ذلك طيلة ملايين الحيوات ولملايين من النساء أو ملايين الرجال... هذا حقاً متعب.. مجرد تخيل الفكرة!

هذا يجلب نضجاً معيناً داخلك، بأنه حان أوان التوقف عن الطفولة الحمقاء... لقد كنتَ تلعب هذه الألعاب فترة طويلة والآن أتى موعد أن تكبر وتنضج، وأن تفعل شيئاً آخر لم تفعله من قبل.

التأمل يندمج تماماً في وجهة النظر الشرقية عن الحياة... إنه الشيء الوحيد الذي لم تفعله أبداً من قبل.. لقد كسبتَ المال وأصبحت ثرياً كبيراً، دخلتَ ألاعيب وأكاذيب السياسة، أصبحت سيادة الوزير وفخامة الرئيس والملك العظيم.. أصبحت رجل أعمال ومن المشاهير تطير أعلى من العصافير... فعلتَ كل شيء في الحياة، لأنه في كل هذا العدد من الحيوات الماضية هناك احتمال كبير ووقت كبير لكل شيء.

وحالما تفهم هذا... أنك لا تزال تقوم بنفس الأشياء، مراراً وتكراراً..... من الجيد ارتكاب الخطأ مرة واحدة، لكن الاستمرار بتكرار نفس الخطأ للأبد يثبت غباءك.

وهناك حاجة عظيمة وملحّة لتفعل شيئاً لم تفعله من قبل... بحثٌ عن ذاتك أنت..... لقد ركضتَ خلف كل شيء وكل شخص في الحياة، ولم يوصلك إلى أي مكان... كل الطرق في العالم تسير بشكل دائري متكرر.. خنفسة في الطاسة، تدور دون الوصول إلى أي هدف... طرق العالم أصلاً ليس لها هدف.

مع تخيل هذا المنظر والطريق المتعب والمضجر، يصبح المرء فجأة مريضاً من كامل المسرحية، كل ما فيها من قصص الحب والغرام، المعارك، الغضب، الطمع والغيرة... ويبدأ لأول مرةٍ يفكر: "الآن، عليّ أن أجد بُعداً جديداً لن أركض فيه وراء أي شخص، بُعدٍ يُعيدني إلى بيتي الحقيقي.. لقد ابتعدتُ كثيراً عنه في هذه الملايين من الحيوات".

هذا هو أساس الحكمة في الشرق.. إنها تصنع مللاً عظيماً في الحياة والموت وتكرار نفس الحلقة المفرغة... عجلة الحياة التي تدور باستمرار ليل نهار ولا تعرف التوقف... يمكنك القفز خارجاً منها لكنك متعلق بها...

هذه هي الطريقة الأساسية لإعادتك إلى فطرتك وحواسك.

لقد تجوّلتَ كثيراً وأضعتَ ما يكفي من الوقت..

الآن توقف عن ذلك... وافعل شيئاً كنتَ تتجنبه منذ قرون، كنتَ دائماً تؤجله إلى يوم الغد..

 

أسرار اليوم جميلة جداً... قالها حكماء الشرق قديماً، عندما لم يكن الشخص يقول شيئاً إلا إذا فهم أولاً... كان الكلام ضد أو مع شيء لا تعرفه يُعتبر أكبر جريمة وخيانة يمكن ارتكابها.

في الشرق، حتى الناس الذين عرفوا، الذين وصلوا إلى أقصى درجة من انفتاح أزهار الوعي في كيانهم، كثيرٌ منهم لم يقولوا شيئاً لأنهم لم يقدروا على إيجاد الكلمات الصحيحة... لم يكونوا بارعين في الكلام ولذلك قرروا البقاء صامتين... من الأفضل أن تبقى صامتاً بدل إعطاء أفكار خاطئة للناس... فقط عدد قليل جداً من المستنيرين تحدثوا، وتحدثوا فقط عندما تأكدوا تماماً أن ما يقولونه من النور قد يساعد ملايين الناس عبر العصور.

الشرق لم يكن أبداً مهتماً بالجريدة اليومية... كان مهتماً فقط بالأقوال التي تحمل صفة الأبدية، التي ستبقى حية في كل عصر وكل زمن... طالما بقي الإنسان حياً على الأرض، لن تتغير قيمة وصلاحية هذه الأقوال.

الجريدة تصبح دون قيمة في المساء... في الغرب، هناك بعض الجرائد تصدر في الصباح، وتصدر أيضاً في بعد الظهر، لأن إصدار الصباح يفقد فائدته حينها... حتى أنه يوجد إصدارات في المساء، لأن إصدار بعد الظهر أيضاً سيفقد أهميته بسرعة.

 

هذه الأسرار ستبقى نضرة وفتيّة مثلما كانت في اللحظة التي قيلت فيها لأول مرة، لكن فقط بالنسبة لأولئك القادرين على اختبار ما يوجد داخلها... وإلا ستكون بالنسبة لك نثراً ومبالغة زائدة... حالما تختبرها، يبدأ النثر بالتحول إلى رقصة وشعر وشعور... تبدأ الكلمات تتحول إلى صمت ونور... تكتشف أن هذه الأقوال هي مجرد وسيلة لإعطائك شعور الرقصة الأبدية في الوجود.

لا يوجد أي كتاب عربي أو غربي، من كل الفلاسفة والمفسرين وأصحاب العقول والتفاسير كلهم، يحتوي أي شيء مناظر للأسرار الشرقية، لأن كل تلك الكتب مجرد نشاط وحشو فكري... الأسرار الشرقية فيها فرق نوعي جوهري.. ليس لها أي علاقة بالفكر... بل لها علاقة بشيء داخل أعماق كيانك واختباره للغبطة والنشوة والفرحة الكونية التي تغمر كل هذا الكون الشاسع... الإنسان فقط هو من يفتقدها، وهو يفتقدها بسبب تراكم المعارف في رأسه.

الطيور والأشجار لا تفتقدها لأنها بريئة... المحيطات والجبال والأنهار.. النجوم تعيشها وتتلألأ راقصة معها... كلها بريئة تماماً، كلها غير مسجونة في قفص المعرفة.

 

السر الأول يقول: إن عدم الاستغناء عن الحكمة هو حماقة!

إن ما تعتبره "حكمة" عندك هو مجرد أشياء جاهزة موروثة أو مستعارة من الآخرين.. ليست حكمة أبداً، بل باعتقادك أنك حكيم فهيم ربما تكون مجرد ساذج يحلم ويهيم.. تستمر بتكرار أفكار وأقوال لا تفهم منها شيئاً، أشياء لم تنمو وتنضج داخل كيانك أنت، أشياء غريبة تماماً عن تجربتك وحياتك... لقد كنتَ تجمع مثل الأطفال الذين يجمعون الأصداف على الشاطئ معتقدين أنهم حصلوا على كنز عظيم... نعم من الممكن خداع الآخرين، وأن تخدع نفسك أيضاً.

هناك بروفيسور مشهور وأعرفه، حاصل على شهادة دكتوراه من جامعة لندن، وموضوع الدكتوراه كان عن طرق نمو الوعي عند الإنسان.. أهدى البروفسور كتابه الجديد إلي عندما نشره وقال: أحب كثيراً أن أعرف رأيك بهذا الكتاب... قلت له: ليس عليّ أن أقرأ الكتاب، فأنا أعرفك أنت..

قال: ماذا تعني؟ أجبت: "أنا أعرف ببساطة أنك لا تعرف شيئاً عن نمو الوعي... لذلك كل شيء قد كتبته في هذا الكتاب هو مستعار.. لقد خدعتَ نفسك وخدعتَ البروفسورات في لندن الذين اختبروا الكتاب، وأنت قد نشرت الكتاب الآن، سيقرؤه ملايين الناس وينخدعون أيضاً... بدل أن تقدّم لي كتاباً عن الوعي، أظهر لي شيئاً من الوعي داخلك".

صُدم البروفسور كثيراً، وعرف أنني كنت أقول الحق... لقد كان شخصاً يسكر.. لم يقدر أن يعيش دون أن يشرب الخمر كل مساء... أخبرته: "فقط قم بالتوقف عن هذا الإدمان اللاواعي، لأن الكحول لا يفعل شيئاً سوى خلق المزيد من اللاوعي عندك... وفوق هذا، لديك الجرأة أن تكتب بحثاً ضخماً عن مواضيع نمو الوعي؟!"

لكنه كان رجلاً معروفاً ومثقفاً جداً، يعرف عدة لغات ويحمل الشهادات... جمع كثيراً من المواد والمراجع بمجرد جلوسه في المكتبة، ونجح بكتابة أطروحة جميلة لأجل الدكتوراه... لكنني قلت له: "لن أقرأ كتابك لأنه ببساطة مجرد عمل موظف كاتب.. أي شخص عنده قليل من الذكاء يمكنه أخذ المعلومات نفسها من المصادر العديدة المتاحة للجميع في المكاتب ويضعها في كتاب... سأقرأ الكتاب فقط إذا أظهرتَ لي أن شيئاً ما ينمو فعلاً في وعيك".

أعدت له الكتاب... قال لي: "أنا محظوظ بأنك لم تكن من يختبر أطروحتي في الجامعة، وإلا ما كنت حصلت على الشهادة".

أجبت: "بيني وبينك، لن تحصل عليها أبداً... يمكنك خداع العالم بأكمله لكنك لن تخدع نفسك"

يستمر الناس بتجميع المعرفة وتختلط المعارف في رؤوسهم ويبدؤون بالاعتقاد أن هذه هي الحكمة.... المعرفة ليست الحكمة... من أوتي الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.

الحكمة تأتي من نمو الوعي عندك.. أما المعرفة فتأتي من تجميع الأفكار من الكتب المقدسة والتفاسير، من أقوال الناس المثقفين، ونسجها في نظام ما... لكنك معها تبقى كما أنت، لا تعبر في أي عملية تحويل وتبديل.

لذلك، يقول السر الأول: إن عدم الاستغناء عن الحكمة هو حماقة... فقط قم برمي حكمتك المزعومة، ومع رحيل حكمتك سيرحل غباؤك أيضاً..... إذا تعلقتَ بمعرفتك، التي تعتقد أنها الحكمة، ستبقى غبياً للأبد.

 

"عندما لا يوجد الفكر، يكون الفهم وعدم الفهم كلاهما حقيقة"

في اللحظة التي يكون الفكر فيها صامتاً، دون نشاط، يكون كل شيء حقيقياً.... إن الفكر هو الذي يشوّه كل شيء ويجعل كل شيء مزيف... المعرفة تأتي عبر الفكر، والحكمة تأتي عندما يكون هناك لافكر.. فناء... هذا توضيح هام جداً لم يذكره أيٌّ من فلاسفة العالم العظماء، ما عدا حكماء الشرق.

القواميس ستقول أن الحكمة هي معرفة، لكن الحقيقة الواقعية واختبارها ليست قاموس بل اختبار حي في النفوس لا في النصوص.. هذا السر يكشف ويحدد تماماً الفرق الشاسع بين المعرفة والحكمة، ليس لهما نفس المعنى فحسب بل لهما معنيين متضادين.... إذا كان فكرك مليئاً بالمعرفة ستبقى غير حكيم أو غبي بكلمة أخرى.

وإذا رميتَ فكرك وتجاوزته، ستدخل إلى عالم الحكمة، عالم اليقظة... في تلك اليقظة يصبح كل شيء حقيقياً..

لأنك أنت حقيقي، ويصبح كل شيء أصلياً لأنك أنت أصلي الآن..

في الفكر تكون أنت مزيفاً، لذلك كل ما يحدث من خلال الفكر يتحول إلى زيف ونفاق.

الفكر هو أعظم عدو للإنسان...

 

"عندما يوجد الفكر، يكون الفهم وعدم الفهم كلاهما زيف

..عندما تفهم، يعتمد الواقع عليك"

هذا من خير الكلام الذي قلّ ودلّ... حاول أن تشعر به ليس فقط أن تقرأه... عندما تفهم، يعتمد الواقع عليك.. ومتى تفهم؟ عندما يوضع الفكر جانباً ويلاقي كيانك الواقع بشكل مباشر دون وسيط، الفكر هو وسيط فقط، وعندها يعتمد الواقع عليك... لقد ارتفعتَ أعلى من مستوى الواقع الواقع.. وصلتَ إلى الواقع الأسمى، وإلا الواقع هو مجرد واقع نسبي.

..عندما لا تفهم، تعتمد أنت على الواقع.. عندما لا تفهم، عندما تكون في الفكر، فأنت ضحية هذا الواقع الدنيوي الذي تراه في كل مكان حولك... المال يخدعك، السلطة تخدعك، الشهرة والشهوة وأي شيء...

أنت تعيش في كثير من سوء الفهم لدرجة أنك إذا استيقظت ورأيت، ستفاجأ كم أنت ماهر في خلق الأشياء المزيفة.. كل شيء يعبر خلال الفكر يتشوّه.. اجلب عصا مستقيمة وضعْ نصفها في حوض ماء شفاف.. ستفاجأ أن العصا فوراً لم تعد مستقيمة.. كأنها انكسرت أو انحنت في مكان دخولها للماء لأن الماء يتصرف بطريقة مختلفة عن الهواء.. أخرج العصا وستجدها مستقيمة مجدداً.. أعدها للماء ستنكسر مجدداً وتفقد استقامتها.. الحالة نفسها تتكرر في الفكر.. الفكر له قدرة واحدة فقط وهي تزييف الأشياء.

للأسف، تم تعليمنا جميعاً كفكر فقط... وإذا رأيت أن العالم يعيش في البؤس والنفاق فلا تستغرب أبداً... إذا استمر العالم بالقتال والقتل والتحضير للانتحار العالمي لا يوجد مفاجأة أبداً... لا يمكن للفكر أن يفعل أي شيء سوى تسميم كل شيء.

رسالة الحكماء بأكملها تتلخص بأن تتجاوز الفكر، وعندها يصبح كل شيء نقياً كالكريستال.. عندها لن تسأل أي سؤال.. ستتصرف انطلاقاً من النقاء داخلك في الحال، من رؤيتك الشفافة العميقة... وكل فعل من أفعالك سيحمل لمسة من الجمال، جمال أخاذ مميز به.. نعمة وبركة كبيرة... بركة تكفي لتغمر العالم بأكمله.

 

عندما يعتمد الواقع عليك، يصبح الشيء غير الحقيقي حقيقياً.. الآن، نعيش في حالة غريبة.. كل شيء تراه حقيقي هو غير حقيقي، وكل شيء حقيقي فعلاً يبدو غير حقيقي لك... هل فكرتَ بهذا مرةً؟ هل روحك هي شيء حقيقي بالنسبة لك؟ لا ليست حقيقة.. لقد سمعت فقط عنها لكن ليس لديك أي اختبار لها.

لكن آلاف الأشياء المزيفة حولك تبدو حقيقية أيضاً... كل ما تعبده في المعابد من رموز وأسماء وكتب مقدسة وأصنام فكرية تبدو حقيقية لك، أما القداسة الفطرية في قلبك فهي غير حقيقية لك... الله خارجك في أعلى سماء حقيقي بالنسبة لك، لكن تجربة الألوهية الحية داخلك غير حقيقية... تنحني أمام الأشياء المزيفة وتعبدها وتكررها دون أن تدرك ماذا تفعل... أنت تهين نفسك وتهين القداسة والألوهية الأقرب إليك من حبل الوريد.

أنت الله ولا إله إلا أنت.... كما قال الحلاج لحظة ملاقاة الحق داخله: أنا الحق.. وأنتم وكلنا من الحق وإلى الحقّ... لستَ بحاجة لعبادة أي شيء... لا يوجد أي شخص أعلى أو أقدس منك ولا أدنى منك... ليس عليك عبادة أي شخص ولا أن تقبل عبادة أي شخص لك... كل ما في حياة مقدس بدرجة متساوية.. أن ترى الله في كل شيء وشيء.

 

عندما تعتمد على الواقع، يصبح الشيء الحقيقي مزيفاً.... عندما تعتمد على الواقع، يكون كل شيء مزيفاً...

كل شيء تعرفه حتى الآن كحقيقة حقيقية... كان هناك في مدينة كبيرة.. رجل عنده أكبر وأجمل قصر.. اعتاد الناس على المجيء فقط لرؤيته، فقد كان معجزة معمارية مميزة... لكن في إحدى الليالي، اشتعلت النار فيه فجأة.

كان الرجل صاحب القصر في زيارة عند صديقه... أرسل له أحدهم خبراً عاجلاً: "ماذا تفعل هنا؟ قصرك يحترق!".... وركض الرجل مسرعاً... لا يمكن لشيء أن يصدمه أكثر من هذا... وعندما وصل، ودون أن يعرف، بدأت الدموع تنهمر من عيونه... قصره الفخم، أغلى وأجمل ما يملك، أكثر شيء يتعلق به في الدنيا يتم تدميره أمام نظره ولا يمكن فعل أي شيء، لأن النار التهمت قسماً كبيراً منه.

عندها تماماً، أتى أصغر أولاده إليه راكضاً وقال: "لا تقلق يا والدي... البارحة بعتُ القصر.. كان الملك يقول دائماً أنه يشعر بالإحراج لأنك تمتلك قصراً أجمل من قصره... في النهاية، قررت أن أبيعه له، وكان مستعداً لدفع أي ثمن".

فجأة جفت الدموع من عيون الرجل وبدأ يبتسم... لم يتغير أي شيء ولا يزال القصر يحترق لكنه لم يعد ملكه.. لذلك من يهتم؟ إذاً لم يكن احتراق القصر هو ما يؤلمه بل كانت الأنا داخله، قصري أنا... وعندها أتى ولده الأوسط: "يا أبي ماذا تفعل واقفاً هنا؟ بالرغم من أننا وافقنا على بيع القصر، لكن لم يتم بعد كتابة أي عقد للبيع... وبالطبع لن يدفع الملك أي مال... ولديّ شك كبير أنه هو وراء اشتعال القصر".

من جديد، عاد نهر الدموع يتدفق من عيون الرجل... والحالة لا تزال كما هي دون أن يتغير شيء... فقط الفكرة تغيرت، أصبح القصر ملكه هو، وبالتالي ظهر حزنٌ كبير... عندما كان القصر ليس ملكه اختفى كل الحزن.

وعندها، أتى الملك بذاته في عربته الملكية وقال: "لا حاجة لأن تقلق يا أخي... أنا رجل وألتزم بكلامي مهما كان... بما أنني اشتريت القصر فقد اشتريته... رغم أننا لم نكتب أي عقد ولم أدفع أي مال، لكن لأننا البارحة وافقنا على البيع شفهياً، فذلك يكفي... إنه قصري أنا الذي يحترق... لا حاجة لأن تقلق أبداً"... وفجأة، اختفت الدموع وعادت الابتسامة العريضة من جديد.

 

عندما يعتمد الواقع عليك، يكون كل شيء حقيقياً..

..هكذا، لا يستخدم الحكيم فكره للبحث عن الواقع، ولا الواقع للبحث عن فكره، ولا الواقع للبحث عن الواقع...

إنها حلقة مفرغة: الفكر والواقع، الفكر والعالم.. الفكر يخلق عالماً افتراضياً معيناً وهو ليس إلا إسقاطاً فكرياً تصنعه أنت وتعيش فيه... وعندها، يقوم ذلك العالم الافتراضي بصنع فكرك... وبهذه الطريقة، تستمر هذه الحلقة المفرغة بتغذية نفسها وكل عنصر فيها يدعم العنصر الآخر، فكرك يدعم الإسقاط الفكري، والإسقاط يدعم فكرك... وتستمر أنت بالعيش في الهلوسة والخيالات.

 

..هكذا، لا يستخدم الحكيم فكره للبحث عن الواقع، ولا الواقع للبحث عن فكره، ولا الواقع للبحث عن الواقع...

فكره لا يجعل الواقع يظهر، والواقع لا يجعل فكره يُثار أو يظهر..

ولأن فكره والواقع كلاهما ساكن مستقر، فهو يعيش دائماً في الصمدية مع الواحد الصمد.

هذا تعريف جميل جداً للحقيقة الصمدية الموجودة في الطبيعة الفطرية عند كل إنسان في كل زمان.. عندما يكون الفكر مستقر والواقع مستقر، عندما تكون أنت خارج تلك الحلقة المفرغة، الصمت العميق يغمر كل شيء...

كلمة الصّمد والصّمدية يجب أن نفهمها جيداً.. صمد ويصمد صمود.. مصمود معبود داخل القلب الودود.. الصمدية تحمل معنى حالة التوازن المطلق، الوصول إلى حالة التوازن والصراط المستقيم دون أي ميلان... الصمدية كلمة قديمة جداً من عشرات ألوف السنين جذرها من السنسكريتية كلمة "صمدهي" نفسها.. تلك اللغات القديمة تحوي كلمات عميقة المعاني، ليست مجرد معاني من القاموس بل معاني وجودية من النفوس التي تعيشها وتختبرها.. لهذا لم يريد أي نبي أن يتم كتابة أي آيات أو كتاب مقدس، لأن الكلمات ستفقد سياقها مع مرور الزمن، ستفقد روحها ومعناها العميق، وتتحول إلى كلمة قاموس وجثة ميتة يتقاتل على تفسيرها المفسرون المشرعون بالجهل والمصالح والفتاوي...

اللغات القديمة صنعها أناس مستنيرون، وهنا يوجد ظاهرة غريبة جداً... نظراً لأنهم مستنيرون فكل كلمة قالوها تحمل معنيين اثنين، الأول هو معنى من القاموس يفهمه الأشخاص الدارسون المثقفون، والثاني هو معنى وجودي حقيقي حقاني لأولئك الباحثين عن الحق.

مثلما هناك كلمة "الصمديّة" هناك كلمة "البليّة".. معناها وادي عميق وهو المرض بالنسبة للروح، أما الصمدية فهي شفاء وصحة وتكامل الروح... لكن كلا الكلمتين لهما معنى وجودي ملموس... الإنسان الذي لم يختبر الصمدية هو شخص مريض روحياً... ربما يكون لديه جسد سليم ورشيق لكنه ليس رشيق روحياً... ومن الممكن أن يكون الإنسان مريضاً جسدياً أحياناً لكن يمكن له تحقيق الصمدية... حتى في آخر لحظة من حياتك يمكنك الوصول إليها.. يمكن لكيانك الروحي أن يأتي بكامل صحته وصحوته ورونقه... حتى لو عرفتَ الصمدية ولو للحظة واحدة، ستعرف أكبر سر من أسرار الحياة.

الصمدية ليس لها أي مرادف أو ترجمة لأي لغة أخرى... الصمدية هي بيتك الداخلي العتيق الأساسي الصامد المصمود..

الناس الذين لا يعرفون الصمدية يتجولون في حياتهم دون بيت... إنهم المشردون الحقيقيون، ليس لهم جذور في الحياة، وحياتهم بأكملها ليست إلا مسرحية مأساة متواصلة.... الصمدية تعطيك الجذور والاتصال بالأصول، تفتح أبواب منزلك الحقيقي... إنها تجسيد وتحقيق كامل قدراتك الكامنة.... والطريق إلى الصمدية بسيط: ارمي الفكر... تجاوز الفكر وستدخل في الصمدية.. الفكر هو العقبة الوحيدة، ومن الغريب أننا نستمر فقط بتثقيف وتغذية الفكر ليصبح أقوى فأقوى... كل أنظمتنا التعليمية حول العالم تغذي الفكر فقط، وهو عدوك!، تجعله أقوى وأمكر، يحمل معلومات أكثر ومعارف أكثر.

 

في عالمٍ أكثر ذكاء، يجب أن يكون التأمل إلزامياً في كل مدرسة وكلية وجامعة... وما لم يحصل الشخص على طعمٍ من الصمدية، يجب ألا نسمح له بالتخرج من الجامعة ولن نعطيه أي شهادة.

وإذا قدرنا على جعل التأمل جزءاً أساسياً من كل الأنظمة التعليمية، عندها من الطبيعي أن الطلاب المتخرجين الذين سيصبحون سياسيين، مهندسين، رجال أعمال، صناعيين، موسيقيين، ممثلين ورسامين وراقصين... لكنهم جميعاً سيحملون شيئاً مشتركاً هو اختبارهم للتأمل... ذلك سيكون العنصر المشترك الذي سيجمع البشرية بكاملها في عائلة كونية واحدة.

الشخص المتأمل سيفعل كل شيء بطريقة مختلفة... مهما كان الاختصاص الذي يختاره فهذا غير مهم... سيجلب إلى اختصاصه بعض صفات القداسة... ربما يكون صانع أحذية أو زبال في الطريق لكن عمله سيحمل صفة ولمسة معينة، بركة ونوراً وجمالاً، لن يكون ممكناً دون الصمدية.

 

يمكننا ملء العالم بأكمله بأشخاص فرحين منتشيين كل لحظة... فقط يجب قبول شيء واحد... سواء سوف تصبح طبيباً أم مهندساً أم عالماً، فذلك لا يهم... يجب أن يكون التأمل هو أساس كل اختصاص، في كل بعد من أبعاد التعليم الخمسة

ستختفي الحروب من تلقاء نفسها... لن تحتاجوا للتظاهر ضد الأسلحة النووية أو إشعال ثورة ضد أحد الحكام.... حتى تعداد السكان والازدحام سيبدأ يتناقص طبيعياً، لأن المتأمل يعيش بوعي.. إذا رأى أن العالم مزدحم جداً بالبشر فلن يقوم بجلب الأطفال... دون حاجة لأي شخص أن يقول له أو ينشر العقم سرياً في اللقاحات كما يفعل بيل غيتس ومافيات الشركات الطبية الدوائية.. لماذا عليه أن يجلب أطفاله إلى عالم يهبط كل يوم ويتجه إلى كارثة عالمية؟ من يريد لأطفاله أن يختبروا حرباً عالمية ثالثة؟ من يريد لأطفاله أن يموتوا جوعاً على الطرقات؟

 

التأمل هو الشفاء الوحيد من كل الأمراض التي يميل إليها الإنسان... دواء واحد لكل داء... تأمل ساعة خير من عبادة سبعين عام... الغذاء هو دواء الجسد، والتأمل هو دواء الروح... تقول الأسرار:

لا يوجد شيء يمتلك طبيعةً خاصة به.. هذا بوح كبير عن الطبيعة الداخلية.. معناه أن وعيك هو مكان نقي تماماً.. ليس له أي صفات أو مواصفات... فارغ تماماً ورغم ذلك ممتلئ، ممتلئ بالنور بالفرح والعطر، لكنه فارغ بشكل مطلق.

ليس هناك طبيعة للنفس تجعل الناس مختلفين عن بعضهم... في اللحظة التي تكون فيها في الصمدية، سترى أن الأشجار أيضاً تعيش الصمدية... الجبال والنجوم والأنهار... الوجود بكامله يعيش في الصمدية الأبدية... أنت فقط قد ضللت الطريق ونسيت... الآن رجعت من جديد، اندمجت وذبت في كلية الكون الواحد الأحد.

 

لا يوجد شيء يمتلك طبيعةً خاصة به... تصرّف! لا تسأل!

هذه ليست فلسفة، ولا أهتم بأي نوع من الفلسفات... الفعل أهم من الأقوال... تصرّف، لا تسأل! لأن الأسئلة لا تقودك إلى أي مكان... كل جواب سيصنع عشر أسئلة جديدة، ويمكنك الاستمرار بالأسئلة حياةً تلو حياة، ولن تقدر على إيجاد الجواب... تصرّف.

 

عندما تسأل تكون مخطئاً.... لا يهم ما هو السؤال الذي تسأله.. عندما تسأل تكون مخطئاً، وعندما لا تسأل وتتصرف بصمت، الصمدية لن تكون بعيدة... الأسئلة تأتي من الفكر، ومهما كانت الأجوبة المعطاة سيفرح بها فكرك لأنه يصبح أكثر معرفة.. أكثر قوة ودهاء... رجاء: لا تسأل أي شيء... إذا أردتَ معرفة الجواب فلا تسأل السؤال... تصرف.

تصرف... تجاوز الفكر وستجد أنك أنت هو الجواب... كيانك أنت هو الجواب.

 

عندما تكون مخدوعاً، فإن الحواس الستة والعناصر الخمسة هي حجارة بناء المعاناة والفناء..

هذا السر الشرقي الكبير يحمل كثيراً من العلوم والمعاني في سطر واحد... عندما تكون مخدوعاً، أي عندما تكون في الفكر بكلمات أخرى، عندها ستصنع العناصر الخمسة مع الحواس الستة عالمك الافتراضي الذي تحدثنا عنه.

من الغريب جداً أن العلم لم يصل لاكتشاف الحاسة السادسة إلا في هذا القرن.. حتى النصوص الدينية كلها تتحدث عن خمس حواس فقط... لكن هذا السر الشرقي القديم يتحدث عن ستة حواس.. ما هذه المعجزة وكيف عرف الحكماء القدماء بوجودها؟..

اكتشف العلم حديثاً أنه داخل أذنك، والأذن اعتبرت دوماً أنها إحدى الحواس الخمس، لكننا لم نعرف أنه يوجد داخلها حاستين اثنتين... واحدة هي حاسة السمع والثانية هي حاسة التوازن... إذا ضربك أحد بقوة على أذنك ستشعر فوراً باختلال التوازن.. عندما ترى سكراناً عائداً لمنزله آخر الليل، لا يمكنك تصديق كيف يقدر على المشي.. لقد فقد كل التحكم بجسمه وتوازنه لأن الكحول يؤثر على الحاسة السادسة.. وكل دواء كيماوي أو مخدر يؤثر عليها أيضاً ويفقد الشخص توازنه.

عاد رجل سكران إلى منزله متأخراً في الليل، وكان يحاول فتح الباب... لكن يده كانت ترتجف وقفل الباب يرتجف، يده الثانية ترتجف أيضاً ولم ينجح بإدخال المفتاح في القفل... فقال: "يا الله.. ماذا يحدث؟ لا بد أنه زلزال قوي.. كل شيء يهتز دون توقف!"

كان شرطي ليلي يراقبه عن الطريق وشعر بالعطف عليه.. لقد كان رجلاً جيداً لكنه واقع في صحبة سيئة.. مثلك أنت تماماً.. أنتم جميعاً أشخاص جيدون لكنكم وقعتم في صحبة سيئة، قريباً ستسكرون بالخمرة الإلهية دون حاجة لأي خمرة!... أتى إليه الشرطي وقال: "هل يمكنني أن أساعدك؟".. أجاب: "نعم هذا لطف كبير منك، إذا قدرتَ أن تمسك لي المنزل لحظة حتى أقدر أضع المفتاح في القفل.. فقط أمسك المنزل بقوة للحظة.. لا بد أن هناك زلزال عنيف".

هذا أمر غريب لأن الحاسة السادسة مخفية داخل الأذن.. لذلك، لم يتحدث أحد عنها لأنه لم يكن أحد يدرك وجودها.. فقط في هذا القرن اكتشفها العلماء والجراحون وأن لها دوراً في الحفاظ على توازن الجسم.

لكن السر يقول لنا: الحواس الستة والعناصر الخمسة هي حجارة بناء المعاناة والفناء.. عندما تكون مخدوعاً، عندما تكون في الفكر، فالحواس والعناصر في جسمك لن تصنع لك إلا المعاناة والموت ولا شيء آخر.. الفناء لأولئك الذين يعتقدون أن الموت هو نهاية كل شيء.

لكنك عندما تستيقظ، فإن الحواس الستة والعناصر الخمسة هي أساسات بناء التحرر والبقاء.. أي عندما تتجاوز أبعد من حدود الفكر... كل شيء يبقى كما هو، نفس الحواس الستة والعناصر الخمسة، أي الأعمدة والحدود التي تبني العالم... حالما تصبح أبعد من الفكر، ستصنع لك التحرر والجنة والبقاء...

تذكر، هذا السر ليس ضد الجسد وليس ضد الدنيا... بل ضد نومك وغفلتك... لا تدعوك الحكمة إلى نكران الدنيا والاستغناء عنها، ولا لأن تعذّب جسدك، لأن هذا الجسد وهذه الدنيا بالذات ستتصرف بطريقة مختلفة تماماً... لذلك فقط كن صاحياً... الجواب بكامله هنا: استغني عن الشخير، استغني عن الفكر الذي هو قلعة مدينة نومك وأحلامك.

تعمّق في الصمت، الذي سيحرر كل وعيك الكامن... وسيصبح كل كيانك متوهجاً بالوعي.... عندها، الجسد نفسه والحواس نفسها والعالم نفسه سيكون لها معنى مختلف تماماً... ستصبح هي الجنة هنا والآن.. عالماً أبدياً.

 

العطشان الباحث عن الطريق لا ينظر أبعد من نفسه.

إنه يعرف أن الفكر هو الطريق.. لكنه عندما يجد الفكر، يجد لا شيء...

وعندما يجد الطريق، يجد لا شيء...

إذا كنتَ تعتقد أنه يمكن استخدام الفكر لإيجاد الطريق، فأنت مخدوع.

عندما تكون مخدوعاً، توجد الاستنارة والعرفان.

معاني جميلة جداً... ومن النادر أن تعبر بمثل هذه الأعماق... عندما تكون مخدوعاً، توجد الاستنارة والعرفان، لأنك عندما تكون واعياً، لا تكون موجودة.. مقولة غريبة جداً... لا بدّ أنك فكرتَ بها بطريقة مختلفة.. لا بد أنك اعتقدت بأنه عندما تكون مخدوعاً فالاستنارة لا يمكن أن توجد، وعندما تكون واعياً فهي توجد... لكن السر يقول العكس تماماً، والسر هو الصحيح.

عندما تكون مخدوعاً، عندما تكون تائهاً متجولاً في كل أنواع الأوهام في الدنيا، سيكون هناك رغبة ما داخلك، عميقة مخفية في مكان ما.... أحياناً تصبح مدركاً لها، وأحياناً أخرى تنساها تماماً... الشوق لأن تكون مستنيراً عارفاً بالحق، الشوق لأن تصبح واعياً ومنوّراً.... حتى في أعمق نوم عندك، في زاوية ما من العتمة داخلك، يستمر شوق صغير ينبّهك ويناديك، بأن تستيقظ وتستنير، لأنه لا يمكن لأي شخص أن يرضى بالأسى والألم والهم والقلق للأبد... المرء يريد دوماً الخروج منها.. لهذا يقول لك السر: عندما تكون مخدوعاً، توجد الاستنارة والعرفان.. عندما تكون واعياً، لا تكون موجودة.. لأن الوعي هو الاستنارة بنور الرحمن، وهو أيضاً نبع العرفان...

عندما تكون واعياً، فأنت النور والألوهية الحية، والشوق لكي تصبح مستنيراً يختفي ببساطة... وعندما تكون الحقّ الحيّ، فلن تكون واعياً بأنك أنت الحق... لا يمكن للوعي أن يكون واعياً لذاته... البراءة لا يمكن أن تكون واعية لذاتها... لذلك، الاستنارة موجودة فقط بالنسبة لأولئك البعيدين جداً عنها... الاستنارة تختفي بالنسبة للذين وصلوا إلى بيتهم... المستنير العارف لا يعرف أنه عارف، ولا يعرّف عن نفسه أنه عارف.. المعرفة توجد فقط عن الآخرين... المرآة تقدر أن تعكس كل شيء في العالم ما عدا نفسها.. والمرآة لا تعرف أنها مرآة.

 

لا تكره الحياة والموت، أو تحب الحياة والموت

حافظ على كل أفكارك متحررة من الخداع، وستشهد في هذه الحياة بداية التحرر الأبدي،

وستختبر في الموت حتمية عدم الولادة من جديد...

من المدهش أن المجتمع الغربي بكامله وكل الفلاسفة العظماء فيه يحددون وعيهم بحياة واحدة فقط ولا يفكرون أبداً بإعادة الولادة والتقمص... إلا حديثاً تحدث قليل من العلماء واختبروا بعض التجارب ما قرب الموت وبدؤوا يقولون أن هناك شيئاً ما يستمر ولا يموت....

الحياة ليست مجرد حياة واحدة... الوجود ليس بخيلاً، بل هو أكرم من كل كريم يفيض بسخاء لا محدود...

كل موت هو بداية لحياة جديدة، باستثناء حالات نادرة عندما يصبح أحد الأشخاص مستنيراً.. عندها سيكون موته هو الموت النهائي بالنسبة له... لن يولد هنا مرة ثانية... لن ينشغل مرةً أخرى بجسد، ولن يعاني هموم فكر آخر من جديد.... سيذوب وعيه، تماماً مثلما يذوب مكعب الثلج في المحيط ويصبح واحداً متوحداً معه... سيكون موجوداً في كل الوجود، لكنه لن يكون محصوراً في أي مكان محدد ولا كشكل محدد... سيكون في كل مكان لكن دون شكل أو ألوان... سيكون الكون.

في كل مرة يصبح فيها شخص ما مستنيراً، يصبح الكون بكامله أعلى قليلاً في مستوى الوعي، لأن وعي هذا الشخص سينتشر في الوجود كله.... وكلما صار هناك مستنيرين أكثر، أصبح الوجود أكثر غنى وسحر... لذلك، الموضوع ليس فقط عن شخص واحد يصبح مستنيراً وانتهى.. في استنارته، الكون بكامله يربح الكثير من النور والجمال والنشوة والاحتفال.

 

إن رؤية الشكل لكن دون أن يُفسدك الشكل،

أو سماع الصوت لكن دون أن يُفسدك الصوت هو التحرر..

العيون التي لا تتعلق بالشكل هي أبواب للحقيقة الصمدية

الأذنان التي لا تتعلق بالصوت هي أيضاً أبواب لها..

باختصار، أولئك الذين يُدركون الوجود كظاهرة، ويبقون دون تعلّق يتحررون

عندما يوجد الخداع، يكون الفكر هو أرض النار والمساكين المعذّبين

عندما يغيب الخداع، يكون الفكر هو أرض الجنة والمستنيرين المباركين

هناك قصة حقيقية عن معلم عظيم في التأمل... أتى إمبراطور اليابان شخصياً لرؤيته، وكان يريد رؤيته منذ زمن طويل لكن الطريق إلى خلوته كان خطيراً يمر من غابات برية كثيفة وجبال وعرة... لكن في النهاية قرر الإمبراطور أن يذهب.. موته كان يقترب ولم يرغب أن يجازف... قبل أن يأتي الموت، لا بد أن يحصل على معرفةٍ ما لا يمكن للموت أن يدمّرها.

وصل إلى معلم التأمل الذي كان جالساً تحت شجرة... انحنى أمامه وقال: "لقد أتيت كل هذه المسافة لأسألك سؤالاً واحداً... هل هناك فعلاً جنة ونار؟ لأن موعد موتي قد اقترب، وهمّي الوحيد هو: إلى أين سأذهب؟ إلى الجنة أم إلى النار؟"

ضحك المعلم وقال: "لم أعرف أبداً أن إمبراطورنا شخص غبي لهذه الدرجة".

عندما تقول للإمبراطور أنه "غبي"!... في أقل من ثانية نسي الإمبراطور نفسه وسحب سيفه وكان سيقطع رأس المعلم.... وهنا ضحك المعلم وقال: "هذه هي بوابة النار".

توقف الإمبراطور، أعاد السيف إلى غمده.. فقال المعلم: "الآن لقد دخلتَ إلى الجنة... والآن يمكنك العودة إلى قصرك... فقط تذكر: الغضب والعنف والتدمير... هذه هي أبواب النار... والنار موجودة في فكرك أنت... أما الفهم والرحمة والصمت فهي أبواب الجنة... إنها أشياء أبعد من حدود فكرك... ولقد أعطيتك الآن اختباراً للاثنين معاً... سامحني لأنني قلت لك غبي.. كنتُ مضطراً لذلك.. أنا ببساطة أصنع وسيلة خاصة لكي تقدر أن تتذوق شيئاً من الجواب.... الآن ارحل عني!"

انحنى الإمبراطور أمامه وشكره مع دموع وافرة من الامتنان، لأنه لم يكن هناك أي جواب آخر يمكن أن يساعده... كان يمكن للسؤال والجواب أن يبقى نظرية بالنسبة له.... لكن المعلم كان شخصاً ذو بصيرة نافذة... قام بخلق الحالة فوراً، بمجرد قوله للإمبراطور أنه غبي... ثم أظهر له الحالتين: أبواب النار وأبواب الجنة.... فكرك هو النار... وتجاوزك لفكرك هو الجنة.

اذهب أبعد من حدود فكرك المسدود... هذا هو جوهر كل الأسرار والتعاليم لكي تصبح عارفاً حكيم...

 

أضيفت في:30-11-2014... زاويــة التـأمـــل> تأمل ساعة
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد