موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

القدرة على رؤية حقيقة النفس

هناك صديق يأتي أحياناً ليزورني... عندما أراه أتذكر دائماً مقولة لسقراط، عندما قال لأحد المتسولين: يا صديقي، من رقع ثيابك المهترئة لا أرى ثياب التسوّل بل ثياب الاستكبار!

طرق الاستكبار خفية جداً... وغطاء التواضع هو أكثر شكل خفي منها... مثل هذا التواضع يغطّيه أقل ويكشفه أكثر... إنه مثل تلك الثياب النسائية التي لا تغطي الجسم بل فقط تكشفه.

في الواقع، لا يقوم غطاء الحب بإزالة الكراهية، ولا تقوم ثياب التواضع بتغطية عريّ الاستكبار... تماماً مثلما تختبئ قطع الجمر بأمان تحت الرماد، وأخف نسمة هواء تكشفها.. وهكذا تبقى الحقيقة مدفونة في الناس وأي خدش بسيط سيمزّق الستارة ويكشفها.

هذه الأمراض الخفية هي أكثر خطورة وقتلاً من الأمراض الظاهرة... لكن مهارة الإنسان في خداع نفسه متطورة جداً، ويستخدم هذه المهارة كثيراً لدرجة أنها صارت طبيعته الذاتية.

 

طوال آلاف السنين، في محاولاتنا لجلب الحضارة بالقوة، لم نحقق شيئاً سوى هذه المهارة... لقد نجح الإنسان ليس في تحطيم طبيعته بل في تغطيتها، بهذه الطريقة أثبتت ما تُسمّى "حضارة" أنها مرض مستعصي ومزمن.

كيف يمكن لحضارةٍ أن تولد ضد الطبيعة؟

ذلك الاتجاه لن يغذي الحضارة بل سيغذي الهمجية وانعدام الحضارة!

الحضارة الحقيقية هي كشفٌ جميل لطبيعة النفس...

خداع النفس لن يوصل الإنسان إلى أي مكان...

لكن بالمقارنة مع الثورة الذاتية، نجد خداع النفس سهلاً جداً... وفي كل مرة نُخطئ ونختار الأسهل... الأسهل ليس هو دائماً الأفضل... كيف يمكنك اختيار سهولة الهبوط، بينما أنت تريد ملامسة قمم جبال الحياة؟

 

من السهل جداً خداع المرء لنفسه...

في خداع الآخرين، هناك خوف من اكتشاف الخدعة والمحاسبة عليها، أما في خداع النفس فلا يوجد حتى ذلك الخوف.

أولئك الذين يخدعون الآخرين يعانون من العقوبة والإهانة في هذا العالم، ويعانون حتى في العالم الآخر من عذاب النار الشديد الذي ينتظرهم..... لكن أولئك الذين يخدعون أنفسهم يحصلون على كل الاحترام في هذا العالم، وفي العالم الآخر أيضاً يعتقدون أنهم يستحقون الجنة.... لهذا السبب تحديداً يخدع الإنسان نفسه دون أدنى خوف، وإلا كيف أمكن ولادة كل هذا النفاق باسم الحضارة وباسم الأديان؟؟

لكن هل يمكنك إخفاء وتدمير شيء حقيقي؟

هل سينجح الإنسان في خداع نفسه وخداع الآخرين وخداع الله ذاته في النهاية؟

أليس كل هذا السباق سخافة وحماقة؟

 

من الأفضل معرفة النفس كما هي، لأنه دون قبول حقيقة النفس ليس هناك إمكانية لحدوث تغيير حقيقي في النفس.

مثلما في الصحة الجسدية من الضروري معرفة المرض والتأكد من حقيقته 100%، كذلك في الصحة الروحية من الضروري معرفة الأمراض الداخلية..

تغطية المرض ليست من مصلحة المريض، بل من مصلحة المرض.. لا بد من التشخيص لأجل العلاج، وأولئك الراغبين بالهرب من التشخيص سيبقون دون أي علاج.

 

كان هناك نحّات يصنع تمثالاً لرالف إيميرسون... واعتاد إيميرسون على القدوم كل يوم ليراقب تطوّر شكل الحجر المنحوت.... ومع تطور الشكل تدريجياً، صار أكثر جدية وتوتراً تجاهه.... في النهاية في أحد الأيام، كان التمثال على وشك الانتهاء، وأصبح إيميرسون غاضباً جداً من رؤية التمثال.... سأله النحات عن سبب غضبه فأجاب: "لقد شاهدتُ ولاحظت أن التمثال كلما صار يشبهني أكثر، صار أكثر تشوهاً وقبحاً!"

 

إنني أعتبر هذه القدرة على رؤية نفسي في كل قبحي، بكل تعرّي وبكل حيوانية، هي الدرجة الأولى من سلم الثورة النفسية الداخلية....

فقط ذلك الإنسان القادر على رؤية القبح داخل نفسه، هو القادر على إعطاء الجمال لنفسه..

دون المقدرة الأولى لا يمكن ولادة الثانية، ومَن يغطّي قبحه وينشغل بنسيانه سيبقى قبيحاً للأبد.

 

معرفة وقبول النفس الشهوانية وذلك "الشيطان" داخلنا، هو الخطوة الأولى الحتمية لمعرفة النفس الراضية المطمئنة وذلك "الله" داخلنا....

قباحة الحياة تبقى مخفيةً بأمان في لاوعي الإنسان تجاهها...

عليّ أولاً وقبل كل شيء أن أعرف نفسي كما أنا... ليس هناك أي بديل.

إذا أعطينا فرصةً للزيف والخداع منذ هذه الخطوة الأولى في الرحلة، فلن يمكن أبداً إحراز الحقيقة في نهاية الرحلة... لكننا ننكر حقيقة النفس بسبب بشاعتها، ونبدأ بتغذية شخصيّة مزيفة تخيّلية.

لا يوجد أي خطأ بهذه الرغبة والطلب للجمال، لكن الطريق هنا خاطئ..

من ناحية، لا يمكن إزالة قباحة النفس بارتداء الأقنعة الجميلة... ومن ناحية ثانية، بسبب الأقنعة، تصبح النفس أكثر قبحاً وتشوهاً.... عندها وبالتدريج تختفي معرفة النفس حتى عن النفس، ونبقى نعرف أنفسنا ونألفها فقط من الأقنعة المزيفة التي ندعوها "الشخصيات" ونتفاخر بها.

عندها إذا خسرنا القناع، سيستحيل علينا معرفة النفس وتذكرها...

 

ذهبت سيدة إلى البنك لسحب بعض المال... سألها المحاسب: "كيف سأصدّق أنك أنتي هي أنتي نفسك؟".... تناولت السيدة بسرعة مرآة صغيرة من حقيبتها، نظرت إليها لحظة وقالت: "صدّقني... هذه فعلاً أنا.. أنا هي أنا ولا أحد آخر!"

في البحث عن الحقيقة، في البحث عن الوجود الفعليّ للنفس، الخطوة الأولى هي القتال مع أقنعتك الخاصة بك.

 

دون اكتشاف الوجه الحقيقي للمرء، لن يقدر أحدٌ على اكتشاف نفسه ولا على محاكاتها..

إن قَصر الحقيقة مبنيّ على أساسات من الواقع الحقيقي،

ولا يمكن لأي قوة سوى الحقيقة أن تجلب الحضارة والتحضّر..

هل نحن حاضرون يا حضرات الحاضرين؟

أضيفت في:1-10-2014... زاويــة التـأمـــل> رسائل من نور
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد