موقع علاء السيد... طباعة
<<<< >>>>

موضوع التقمص

هذا الموضوع يثير كثيراً من الجدل باستمرار بين البشر وبين الأديان والطوائف وبين الحضارات.. والسبب هو غياب الفهم الحقيقي والاختلاف في المعتقدات الموروثة والتطرف بين الأفكار... فنجد نصف البشر يؤمنون بالتقمص ونصفهم الآخر لا يؤمنون... كلاهما واحد ولا أحد أفضل من أحد ولا أقرب للحقيقة، لأن هذه مجرد اعتقادات حتى لو كان هناك اختبارات أو آيات... تابعوا معي.


الناس الموجودون في الغرب لا يؤمنون بالتقمص بل عندهم فقط حياة واحدة في فكرهم: اعصر هذه الليمونة بسرعة واستغلها جيداً لأنه ليس عندك حياة غيرها، ولهذا نجد الغرب وراء النصب والاستعمار والحرب.. كلهم في الظلمة نائمون.
والناس الموجودون في الشرق يؤمنون بالتقمص وأن عندك عدة أجيال سابقة ولاحقة، لذلك إذا عندك جدار تريد طلاءه، لا ضرورة للعجلة يمكنك طلاءه في الجيل القادم! وهكذا في الشرق أيضاً كلهم نائمون...


سبب انتشار الاعتقاد بالتقمص أو عدم الاعتقاد، هو ببساطة المعتقدات الموروثة من الأهل والمجتمع المحيط بالطفل.. هذه المعتقدات ليست موجودة في الوعي فحسب، بل الأهم ما يوجد في اللاوعي الجماعي وهو ما يراه المرء حقيقة طول عمره لأنه سيسقطه دائماً على الواقع.. (إلا إذا عمل على نفسه وطوّر وعيه).


بين الناس المعتقدين بالتقمص نجد مثلاً تكرار حالات "النطق" عند الأطفال، حيث نجد الطفل فعلاً ينطق كلاماً عن مناظر وأشخاص وأحداث قديمة من جيل ماضي أو أكثر، وتم توثيق مئات الحالات... لكن بين الناس غير المعتقدين بالتقمص (أو المعتقدين باللاتقمص) لا نجد مثل هذه الحالات! فهل هناك تقمص أم لا؟


ماذا يقول علم الميزان؟ ماذا يقول وعي الإنسان وجوهر الأديان؟
هناك عدة أفلام لعلماء من الغرب مثل فلم Flat Liner أثبت فيه الأطباء بالأجهزة الطبية والموت السريري المؤقت أن هناك شيء ما لا يموت، وأن هناك أجيال سابقة ولاحقة ويمكن لأي أحد أن يختبرها... إذاً التقمص ظاهرة حقيقية في "العلم"، لكن لماذا "نكرها أو رفضها" الدين والأنبياء الذين تجاوزوا حدود العلم المحدود كالنبي والمسيح؟؟؟
التقمص من المعتقدات القديمة جداً وهو ظاهرة حقيقية بالنسبة للحشود لـ99% من الناس: لأن معظمهم نائمون يتصرفون بطريقة آلية غير واعية، ويموتون في حالات الغيبوبة والخوف والتعلق بالرغبات، لذلك نجدهم فعلاً يعودون إلى رحم جديد ويكررون التجارب والدروس التي فاتتهم، ويحصل عندهم "التقمص" (أو كما يسميها أوسبونسكي بكلمة أنسب: "التكرار").


لكن عندما يقول لك معلم ما أنه لا يوجد تقمص... معلم حكيم واصل وعارف كالنبي أو المسيح أو أوشو... يتكلم مع المريدين للحقيقة وهم قلة الصحابة ليسوا من العوام، فهو لا ينكر وجود التقمص بالذات، لكن يدفعك أنت لرمي فكرة التقمص من فكرك المليء بالمعتقدات، فتستطيع العيش في هذه الحياة الحاضرة بيقظة تامة والوصول للحقيقة الداخلية هنا والآن... أي أن تحشد كامل وعيك وطاقتك وتضعها في هذه اللحظة، بدل أن تبقى مشتتاً ومهتماً بالماضي والمستقبل من الزمان.


هذا المسح للمعتقدات الماضية نراه في رمز الخشوع عندما تلامس الجبهة عين البصيرة تراب الأرض في الصلاة... ونراه في المعمودية عندما تُعمّد جبهة الطفل وناصيته بالماء... طبعاً هذا فقط لمن كان خاشعاً موصولاً فعلاً في صلاته وحاضراً مستحقاً للمعمودية.
لكن الجهل المنتشر وعدم فهم حقائق الأمور والأسباب الكامنة خلف كلمات الحكماء والأنبياء، أدى لتحول الظاهرة إلى معتقدات متناقضة... بين اعتقاد بالتقمص واعتقاد أيضاً بعدم وجوده.
كل ما تختبره بنفسك هو حقيقة بالنسبة لك أنت، والحقيقة شيء فردي لا يمكن تعميمه للكل... وتعميمه هو ما يؤدي للجهل والمعتقدات.


صار هناك مئات الكتب تتحدث عن التقمص وطبقاته وتفاصيله، وحتى طرق للعلاج بالتقمص وغيرها يمكننا استخدامها... لكن كلها حقيقة بالنسبة لمستوى معين من الوعي عند الأفراد غالباً منخفض... الحقيقة دوماً نسبية لا مطلقة.


وهناك المزيد لمن يريد... لقد عرف السيد المسيح الكثير عن التقمص.. هناك الكثير من الإشارات والتلميحات في الأناجيل المختلفة.. كما قال: "أنا قبل إبراهيم وبعده".. "وأنا سوف أعود مجدداً"... عرف عن التقمص بشكل جيد، لكن هناك سبب مختلف وراء عدم حديثه عنه بشكل مباشر وعدم التبشير به بين الناس.
لقد زار المسيح بلاد الهند وعرف ماذا حدث بسبب نظرية التقمص.. هذه النظرية كانت تُدرّس منذ خمس آلاف سنة قبل المسيح.. وهي ليست نظرية بل حقيقة، أو مستندة على الحقيقة... الإنسان عنده ملايين الحيوات أو الأجيال.. وهذه كانت تعاليم قديمة عند ماهافيرا وبوذا وكريشنا وراما وكل الأديان الهندية تتفق على هذا.. وستفاجأ إذا عرفت أنهم لا يتفقون على أي شيء سوى هذه النظرية.


الهندوس يؤمنون بالله وبالروح.. الجيانا لا يؤمنون بالله أبداً بل فقط بالروح.. والبوذيون لا يؤمنون لا بالله ولا بالروح.. لكن بالنسبة للتقمص نجد الثلاثة يتفقون، وحتى البوذيون الذين لا يؤمنون بالروح وهذا حقاً أمر غريب... من الذي يتقمص إذاً؟
حتى البوذيون لم يستطيعوا إنكار التقمص رغم أنهم استطاعوا إنكار وجود الروح، وكان من الصعب عليهم إثبات ظاهرة التقمص من دون الروح.. يبدو هذا مستحيلاً.. لكنهم أوجدوا طريقة مرهفة وصعبة الفهم لكنها قريبة جداً أو هي الأقرب من الحقيقة.


الكلام التالي عن الحكيم بوذا، لكنك إذا قرأت بقلبك وبفكر مفتوح ستجد الحقيقة العميقة ذاتها عند النبي أو الإمام علي أو المسيح، مجرد اختلاف في الكلمات لا يشكل خلافاً في الآيات....
من السهل فهم أن هناك روح، وأنك عندما تموت فالجسد يُترك على الأرض والروح تدخل إلى جسد أو رحم جديد.. هذا شيء بسيط ومنطقي واضح... لكن بوذا يقول ليس هناك روح بل فقط استمرار وتواصل، نور من نور..... مثال عندما تشعل شمعة في المساء وفي الصباح تطفئها، هناك سؤال يمكن طرحه عليك: "هل أنت تطفئ نفس النور الذي كنت أشعلته في المساء؟"


لا إنه ليس نفس النور، ورغم ذلك هناك استمرارية معينة..
في المساء عندما أشعلت الشمعة، ذلك اللهب لم يعد موجوداً.. اللهب يختفي دائماً ويُستبدل بلهب آخر، والاستبدال سريع جداً فلا يمكنك رؤية الفجوات، لكن باستخدام أدوات علمية متطورة يمكن رؤيتها: لهب يختفي ثم لهب يظهر وهكذا.. لابد أن هناك فواصل صغيرة لا نقدر على رؤيتها بعيوننا المجردة...


يقول بوذا أنه مثلما لهب الشمعة ليس ذاته في الصباح، بل يتغير باستمرار رغم إمكانية اعتباره يبقى ذاته لأنه يحافظ على الاستمرارية ذاتها، مثل ذلك بالضبط يقول بوذا أنه ليس هناك كيان روحي فيك كشيء جامد بل شيء مثل نور الشمعة.. إنه يتغير باستمرار مثل النهر.
بوذا لا يؤمن بالأسماء بل يؤمن فقط بالأفعال من الكلام، وأنا أتفق معه تماماً فهو الأقرب للحقيقة على الأقل في تعبيراته العميقة.


لكن لماذا نجد أن الأنبياء موسى وعيسى ومحمد مؤسسو الأديان الثلاثة خارج الهند لم يتحدثوا عن التقمص بشكل مباشر؟ هناك سبب محدد والسبب أن موسى تكوّن عنده وعي ما عن الفكرة... فقد كانت مصر والهند على اتصال دائم... حتى أن قارتي أفريقيا وآسيا كانتا متصلتين في قديم الزمان قبل الانزياح القاري.. لذلك هناك ترابط بالأصول والطبيعة بين مصر والهند والعروق البشرية فيها.


لا بد أن موسى كان مدركاً تماماً للهند وما يحدث فيها، وستفاجأ عندما تعلم أن كشمير فيها قبران ترقد فيهما أجساد موسى وعيسى المسيح.. القبور موجودة هناك وتدل على أنهما شاهدا ماذا حدث للهند خلال انتشار نظرية التقمص....
لقد جعلت نظرية التقمص الهند بلداً خاملاً بليداً وكسولاً.. جعلتها غير واعية أبداً للوقت.. ساعدت الناس على التأجيل والتأجيل.. وإذا استطعت التأجيل إلى الغد، فستبقى اليوم كما كنت من قبل ولن يأتي الغد أبداً... والهند لا تعرف كيف تؤجل إلى يوم الغد فحسب بل حتى إلى الجيل القادم!


قام كل من موسى وعيسى بزيارة الهند، وكل منهما كان مدركاً لما يحدث.. محمد لم يزر الهند لكنه كان أيضاً مدركاً لأنه كان في بلاد قريبة من الهند وكان هناك سفر متواصل بين الهند وشبه الجزيرة العربية... انطلاقاً من ذلك الإدراك قرروا أن الأفضل هو إخبار الناس: "هناك فقط حياة واحدة، وهذه آخر فرصة لديكم.. الأولى والأخيرة.. فإذا فاتتكم ستفوتكم للأبد"... هذه وسيلة لصنع نار من الشوق والتوق عند الناس، لصنع حضور قوي من النور عندهم فيمكن تغييرهم بسهولة وتنويرهم.


بعدها يتبادر لنا السؤال: ألم يكن الحكماء القدماء مثل ماهافيرا وكريشنا وبوذا مدركين للموضوع؟ ألم يدركوا أن نظرية التقمص هذه ستسبب الخمول عند الناس؟
لقد كانوا يجربون وسيلة مختلفة تماماً، وكل وسيلة لها وقتها وزمانها، بمجرد أن نستخدمها لا يمكن أن نستخدمها بعدها للأبد، فالناس سيعتادون عليها.


عندما جرب بوذا ومهافيرا وكريشنا وسيلة التقمص، كانوا يجربونها من زاوية مختلفة تماماً... كانت الهند بلاداً غنية جداً في تلك الأيام، واعتبرت أغنى بلد ذهبي في العالم... وفي البلد الغني نجد أن المشكلة الحقيقية وأعظم المشاكل هي الملل.
هذا ما يحدث الآن في الغرب.. أصبحت أميركا تمر بنفس الحالة وأصبح الملل أعظم المشاكل هناك وطبعاً عند أثرياء وملوك العرب أيضاً... صار الناس ضجرين جداً لدرجة أنهم يتمنون الموت.....


كريشنا وبوذا وماهافيرا استخدموا هذه الحالة، وقالوا للناس: "هذا لا شيء.. ملل وضجر حياة واحدة هو لا شيء يُذكر... لقد عشتم حيوات متعددة وتذكروا، إذا لم تصغوا للحقيقة فستعيشون مزيداً من الحيوات والحيوات وستكونوا ضجرين مراراً وتكراراً عبر الزمن.... إنها ذات العجلة من الحياة والموت تدور وتتكرر".
لقد رسموا الضجر بهذه الألوان القاتمة، فقدروا على تحويل الناس الضجرين حتى من حياة واحدة وجعلهم مهتمين بالدين وبه منشغلين... فعلى المرء حينها أن يتخلص من الحياة والموت والخروج من هذه العجلة أو الحلقة المفرغة من الموت والولادة.. لذلك التقمص كان له قيمة وأهمية في تلك الأيام.


بعدها أصبحت الهند فقيرة... حالما يصبح البلد فقيراً نجد الملل يختفي في الحال... لا يمكن أن تجد رجلاً فقيراً يشعر بالملل أو السأم، تذكر، الرجل الثري هو فقط القادر على دفع تكاليف الملل والملل من مظاهر الترف والرخاء!
عندما أصبحت الهند فقيرة، أصبحت نظرية التقمص مهرباً للناس، أصبحت أملاً.. بدل الملل صار هناك أمل.... إمكانية مستمرة للتأجيل: "أنا شخص فقير في هذا الجيل، لكن لا شيء يستدعي القلق، هناك عدة حيوات أمامي... وفي الجيل القادم سأجتهد أكثر بقليل وأصبح غنياً...... في هذا الجيل حصلت على امرأة بشعة، لكن لا مشكلة أبداً، عليّ فقط الانتظار جيلاً فحسب.... في المرة القادمة لن أرتكب نفس الخطأ مجدداً.... هذه المرة أنا أعاني بسبب أفعالي الماضية وهي كارما عليّ دفعها.... في هذه الحياة لن أفعل أي أعمال خاطئة بحيث يمكنني أن أستمتع بحياتي القادمة!!!"


كما ترون، أصبح التقمص مهرباً وذريعة للتأجيل والكسل...
السيد المسيح شاهد ذلك، شاهد أن الوسيلة لم تعد تعمل، لم تعد تعمل بالطريقة التي قُصد بها أن تعمل... لقد تغيرت الحالة فكان عليه الآن خلق وسيلة أخرى: لا يوجد هناك إلا حياة واحدة.. لذلك إذا أردت أن تكون مؤمناً متديناً وتتأمل وتكون مريداً للحقيقة فكن كذلك الآن فوراً، لأن الغد غير مضمون لا يمكنك الاعتماد عليه.. ربما لا يكون هناك أي مستقبل.


ولهذا صار الغرب واعياً زيادة للوقت وصار كل شخص فيه مستعجلاً مستنفراً... هذا الاستعجال سببه الدين المسيحي... وهكذا فشلت الوسيلة مرة أخرى، ولا تستطيع أي وسيلة أن تعمل للأبد...
كل وسيلة تعمل جيداً طالما المعلّم المصدر لها على قيد الحياة.. لأنه هو روحها وهو القادر على استخدامها بطريقة ناجحة... مع موت المعلم ستخرج الطريقة من الاستعمال أو سيجد لها الناس تفسيرات جديدة مختلفة.....


في النهاية إليكم قصة قصيرة تشرح وجهة نظري في موضوع التقمص:
كان فرحان يتناقش مع أحد الشيوخ الأئمة الكبار ويحاول أن يشرح له نظرية التقمص:
"يا شيخنا الجليل المحترم... للتوضيح والتبسيط، دعنا نقول أن حضرتك ستموت غداً لا سمح الله... بعد بضعة أيام ستنمو زهرة وتتفتح فوق قبرك طال عمرك... ستأتي بقرة دام قدرك وتأكل هذه الزهرة... وفي صباح اليوم التالي ستنزل البقرة بقايا معطرة... سأكون أنا أتمشى هناك وسأرى البقايا وأقول: آه يا شيخنا العظيم... لم تتغير قط!"


 

أضيفت في:28-2-2013... حياة و موت> ولادة و موت و نمَوت
.... إذا وجدت أن الموضوع مفيد لك، أرجو منك دعم الموقع

 

 

© جميع الحقوق محفوظة.. موقع علاء السيد